في إطار الانفتاح المتزايد لمنظومة العدالة على التحولات الرقمية، وضمن فعاليات اليوم الرابع من الدورة 30 للمعرض الدولي للنشر والكتاب، نظمت جلسة علمية وازنة تحت عنوان "العدالة وتحديات الذكاء الاصطناعي"، جمعت نخبة من القضاة والخبراء والأكاديميين لمناقشة سبل إدماج التكنولوجيا الحديثة في الحقل القضائي، دون المساس بضمانات المحاكمة العادلة ومبادئ حقوق الإنسان.
وقد تولى الأستاذ الجيلالي عكبي، رئيس وحدة النشر والتوثيق لدى رئاسة النيابة العامة، تسيير الجلسة التي شهدت مداخلات مهمة، من بينها عرض الأستاذ عز الدين الماحي، رئيس شعبة الموارد البشرية لدى رئاسة النيابة العامة، الذي أكد خلال مداخلته حول "دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز جودة العدالة"، أن هذه التكنولوجيا أصبحت تفرض نفسها بقوة في الزمن الراهن؛ ورغم غياب نصوص تشريعية صريحة تنظم الذكاء الاصطناعي. وشدد المتدخل على أن هذا النقص لا يشكل بالضرورة عائقا، ما دام من الممكن استثمار المبادئ العامة للتحول الرقمي لصياغة إطار قانوني مناسب.
وأشار السيد الماحي إلى أن الاستخدام الدقيق للذكاء الاصطناعي في المجال القضائي من شأنه أن يعزز الشفافية، ويسرع معالجة الملفات، ويحقق نجاعة أكبر، وهي أهداف تتماشى مع روح الدستور المغربي. ونبّه في المقابل إلى ضرورة الإبقاء على الدور البشري في إصدار الأحكام، معتبرا أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يستخدم كأداة مساعدة لا كبديل عن القاضي، حرصا على الطابع الإنساني للعدالة.
من جانبه، تناول الأستاذ أبو بكر مهم، أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والسياسية بسطات ومنسق ماستر القانون المدني وتقنيات التوثيق والرقمنة، موضوع "المسؤولية المدنية وتحديات الذكاء الاصطناعي"، مبرزا تعقيداته القانونية، وموضحا أن الإشكال الجوهري يتمثل في مدى قدرة هذه المنظومة، كما هي معروفة في القانون المغربي، على استيعاب خصوصيات الذكاء الاصطناعي، خاصة حين يتعلق الأمر بأنظمة ذكية تتخذ قرارات مستقلة. كما ذكر بأن المسؤولية المبنية على الخطأ، وفق الفصل 77 من ظهير الالتزامات والعقود، تفترض أن يكون مرتكب الفعل إنسانا، وهو ما لا ينطبق على الذكاء الاصطناعي الذي لا يتمتع بالشخصية القانونية.
وفي هذا الصدد اقترح المتدخل أن يتم التفكير في توسيع نطاق المسؤولية عن المنتجات المعيبة لتشمل الأضرار الناجمة عن الذكاء الاصطناعي، شريطة مراجعة بعض المفاهيم المرتبطة بها، كمفهوم المنتج، وطبيعة العيب، وهوية المسؤول، بما يتلاءم مع الخصائص التقنية والتطور الذاتي لهذه الأنظمة.
أما الأستاذ عبد الرحيم الزايدي، الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بفاس، فقد تناول في مداخلته موضوع "استغلال الذكاء الاصطناعي في تدبير الشكايات والمحاضر"، مميزا بين الرقمنة والذكاء الاصطناعي، موضحا أن الرقمنة تعتمد على تدخل الإنسان في مختلف مراحلها، سواء في إنتاج المعطيات أو تحليلها، بينما يعتمد الذكاء الاصطناعي على تدخل بشري في البداية فقط، ليسند لاحقا مهمة التحليل واتخاذ القرار إلى النظام الذكي، وهو ما يقلص من التدخل الإنساني في النتائج.
واعتبر الأستاذ الزايدي أن الذكاء الاصطناعي يمكن توظيفه اليوم في إجراءات النيابة العامة التي تمهد لاتخاذ القرار، مثل تحليل الشكايات وتنظيم المحاضر، لكن ما يزال هناك نقاش مستمر حول مدى إمكانية استخدامه في القرارات النهائية التي تتطلب سلطة تقديرية وإنسانية.
ورغم ذلك، أكد السيد عبد الرحيم الزايدي أن الذكاء الاصطناعي يساهم بفعالية في تحقيق الجودة والسرعة، وتوحيد الاجتهادات القضائية، مما يعزز مبدأ المساواة أمام العدالة ويقلل من هامش الخطأ.