"عندما أتأمل فترات من حياتي، يحضر أمامي عديدون ممن التقيت بهم، منهم من ساعدني ومنهم من علمني، ولولاهم جميعا لما استطعت كتابة ونشر أعمالي، لذلك فإن مقدمة كلامي في هذه المناسبة هو شكر هؤلاء الذين علموني معنى الشعر ومعنى ثقافة الشاعر خلال مصاحبتي لهم". بعبارات الشكر والعرفان هاته، ملأ محمد بنيس قاعة رباط الفتح بمشاعر الحب والإخلاص بين عشاق إبداعاته وكتاباته، يوم السبت 03 يونيو 2023، في كلمة ألقاها بمناسبة تنظيم ندوة سلطت الضوء على مساره الأدبي والشعري الحافل ضمن الأنشطة الثقافية التي يحتضنها المعرض الدولي للنشر والكتاب في دورته الـ28.
يعتبر محمد بنيس من الكتاب والأدباء والشعراء الذين انشغلوا بسؤال الحداثة في العالم العربي، ومن بين أشد المهتمين بقضايا الشعر المغربي المعاصر والذين انكبوا على مقاربة الأوضاع الشعرية المغربية. وهو ممن ساهموا بسخاء في إثراء المكتبة المغربية والعربية بإبداعات شعرية ومؤلفات نقدية وكتب أجنبية مترجمة.
نشأة عادية وتعليم متين
في عام 1948، وبالعاصمة العلمية فاس، سمعت الصرخة الأولى لطفل لم يتوقع أحد من المقربين له أن يكون له وزنه في الساحة الأدبية والثقافية المغربية والعربية، وأن يتجاوز إشعاع أعماله حدود الوطن ليعبر بلدان الشرق ويخترق مكتبات الغرب.
تلقى محمد بنيس أبجديات اللغة العربية منذ نعومة أظافره داخل الكتّاب، قبل أن يلتحق في نهاية عقده الأول بالفصول الدراسية بالمدرسة العمومية، وفيها تدرج من المرحلة الإبتدائية ومرورا بالسلك الإعدادي ووصولا إلى السلك الثانوي بمدينة فاس.
"منذ أن قرأت قولة سقراط وأنا شاب "كل ما أعرف هو أنني لا أعرف شيئا" ظل صدى حروفها يلازمني في علاقتي بالمعرفة، ليقول بعدها جيل دولوز "عدم المعرفة لدى سقراط بانفتاحه على التعلم الدائم" فأهتدي بتحفة سقراط أكثر".
تُظهر كلمات بنيس، التي تلفظت بها شفاهه وهي تحكي عن تواضعه رغم ما بلغه من مكانة علمية ونبوغ أدبي، حرصه على مواظبة طلب العلم، فهو الذي تخصص في دراسة الأدب العربي بعد حصوله على شهادة الباكالوريا سنة 1972، وفيها توج مساره الأكاديمي بأول شهادة جامعية وهي شهادة الإجازة، ما فتح له الباب لاستكمال دراساته الجامعية، حيث انتقل إلى كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالعاصمة الرباط، ليحصل فيها على دبلوم الدراسات العليا سنة 1978، حول موضوع "ظاهرة الشعر الحديث في المغرب".
لم يتأخر الشاعر المغربي في إغناء تكوينه الأكاديمي الذي توجه بشهادة دكتوراه الدولة والتي قارب فيها بنيات وإبدالات الشعر العربي الحديث.
استقر محمد بنيس في مدينة المحمدية قادما من فاس منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث اشتغل أستاذا للغة العربية. وبعدها بعشر سنوات، تولى مهمة تدريس الشعر العربي الحديث بمدرجات كلية الآداب بالرباط، قبل أن يتفرغ بشكل كبير للكتابة.
"كان لي في الطفولة بعض من البوح الشعري، ثم أدركت لاحقا أن البوح أو الانفعال العاطفي علامة على الاستعداد الفطري لكل من يقبل على الممارسة الجمالية الشعرية والفنية". قد تكون العفوية هي زاد بنيس عندما تحدث عن تعلقه بالإبداع والكتابة في طفولته، لكن بعودة عشاق أشعاره إلى بداياته ومحاولاته الأولى سيكتشفون أن ولع محمد بنيس بنظم الشعر برز منذ مرحلة مبكرة، حيث نشر قصائده الأولى على صفحات جريدة "العلم" المغربية منذ سنة 1968، قبل أن يصدر ديوانه الأول سنة 1969 والذي اختار له "ما قبل الكلام" عنوانا، واستمر إبداعه الشعري بإصدار 16 ديوانا شعريا، منها عشرة دواوين مضمنة في مجلدين صدرا سنة 2002، إضافة إلى مختارات شعرية بعنوان "ضوء العتمات". ومن بين أهم أعماله الشعرية "وجه متوهج عبر امتداد الزمن"، "مسكن لدكنة الصباح"، "نهر بين جنازتين"، و "يقظة الصمت" والذي صدر له سنة 2020.
استمدت تجربة بنيس الشعرية بريقها من اطلاعه المبكر على قامات شعرية تأثر بإبداعاتها، فهو الذي يقول "كانت أعمال الشعراء والكتاب والفنانين عبر مراحل التاريخ مدرستي الكبرى، منها تعلمت شغف القراءة وتجربة الانتقال من العفوية إلى الكتابة، ولازالت هذه الأعمال لا تفارقني في مكتبتي التي كبرت فيها".
لم تتوقف مساهمة محمد بنيس في دراسة الأدب العربي عموما، والشعر المغربي المعاصر خصوصا، عند إصدار دواوين شعرية، بل تجاوزت ذلك إلى إصدار مؤلفات ودراسات تقارب الظاهرة الأدبية العربية والمغربية، ومن أبرزها "حداثة السؤال" سنة 1985، "كتابة المحو" سنة 1994، "الحداثة المعطوبة" سنة 2004 والذي أعيد نشر طبعته الثانية سنة 2012، "الحق في الشعر" وهي مجموعة مقالات اصدرت سنة 2007، و "سيادة الهامش" سنة 2016.
التحديث.. غاية أرقت بال بنيس
انشغل محمد بنيس بموضوع التحديث في العالم العربي منطلقا من زاوية تحديث الشعر العربي، فهو الذي يؤمن أن "استعادة اللغة العربية المفقودة لا تتم إلا بالشعر"، ولقد أسعفه نضج تجربته الثقافية والأدبية والشعرية في طرح قضايا ومواضيع تشغل معظم المثقفين العرب، والمتعلقة بمستقبل الحداثة والثقافة والحرية والشعر في العالم العربي. مع الحرص على توضيح موقفه اتجاه القضايا الثقافية والأدبية العربية على أنه مجرد نقد وتحليل، وليس دعوة لليأس والتشاؤم، وعبر عن ذلك في مقدمة كتابه "الحداثة المعطوبة" بقوله: "لا أقصد من ذلك أنني متشائم لا، إنني متسائل".
اهتم بنيس كذلك بسؤال التحديث بالمغرب من خلال مقاربة اللغة القادرة على إسعاف المجتمع في بلوغ مستوى متقدم من الحداثة، واعتبر أن اللغة العربية كفيلة بتحقيق ذلك، عكس اللغة الفرنسية التي يعتبرها قاصرة على الإجابة عن تحديات التحديث بالمغرب المعاصر، وأن الفرنكوفونية مجرد امتداد للاستعمار الذي انقضى عهده، دونما إقرار، في ذلك، بانتماء أو تبن لإيديولوجيا معينة.
من هذا المنطلق، وضع محمد بنيس مسألة تحديث اللغة العربية، وتحريرها من القيود التقليدية، والدفاع عن حرية التعبير انسجاما مع ما تمليه قيم الحداثة، ضمن أعلى المواضيع في سلم أولويات مختلف اعماله النقدية.
مسيرة حافلة بالجوائز
تزخر خزانة الشاعر والكاتب المغربي، محمد بنيس، بجوائز وطنية وعربية ودولية استحقها بفضل غزارة إنتاجه وجمالية إبداعاته، منها جائزة المغرب الكبرى للكتاب عن ديوانه "هبة الفراغ"، سنة 1993، وجائزة الأطلس الكبير في الرباط عن ديوانه "نهر بين جنازتين"، سنة 2000، ووسام فارس الفنون والآداب الذي وشحته به الدولة الفرنسية سنة 2002، وجائزة "فيرونيا" العالمية للآداب سنة 2007، والجائزة المغاربية للثقافة بتونس سنة 2010، وغيرها من الجوائز والأوسمة التي حصدها الشاعر والكاتب المغربي.