كانت وجوه الأطفال تتطلع بذهولٍ إلى العرائس وهي تتحرك في رشاقةٍ وسرعة. من اليمين إلى اليسار ومن الأعلى نحو الأسفل، وكأن يدا ما خفية تحركها. أميمة طفلةٌ في عقدها الأول تقول إنها لم "تحضر في حياتها عرضا مثل هذا". ثم تواصلُ متابعة بعينيها، ببراءة الأطفال، الألوان البراقة والملابس الساحرة.
إنه يأخذهم في رحلة نحو عالم غريب. حيث كل شيءٍ فيه ممكن. مجسمات تتحدث وأخرى ترقص دون موسيقى. "كيف يفعل ذلك؟ كيف تتحرك الساقُ واليد بهذا التناسق والتناغم؟" يتوجه ريان، طفل في السابعة من عمره، بهذا السؤالِ إلى والدته.
ينتهي العرض فجأةً. تصفق أياديهم الصغيرة. ثم بإلحاحٍ يطلبون عرضاً آخر. ولأنه يحبُّ أن يصنع الفرح والفرجة يلبي الطلب دون تردد كثير. إنه رجل في سن متقدمةٍ برأس أبيض وتجاعيد توحي بحكمة سنينٍ طويلة.
يحرك مجسماته كما يفعل ساحر متمرس. اسمه محمد الياسني، يقول "إنه لا يعرف شيئاً في الحياة تقريبا غير تحريك العرائس وصنع مجسماتها". آتى إلى المعرض الدولي للنشر والكتاب، وفي الرواق المخصص للأطفال وضع كلَّ عدّته وعتاده.
يدير هذا الرجل ورشة لصنع الدمى والعرائس. يعلِّم الأطفال كيف يصممون المجسمات ويخيطون الملابس. "أحب الدمى كثيراً.. وكنت أتمنى لو كانت تتحرك أمامي وأنا اليوم تعلمت بفضل العم محمد كيف أحركها بل وكيف أخيط أثوابها".
يعلم محمد الياسني الأطفال حرفتهُ وهو يحكي لهم تاريخ هذا الفن الطويل. فإلى جانب إتقانه هذه الحرفة، يعتبر السيد الياسني حكواتيا بارعا، يشخص ما يحكيه بقسمات وجهه وطبقات صوته. يحكي لهم بشغف عن مسرح العرائس الذي كان قديماً والذي أحياهُ اليومَ برفقتهم.
في معرض الكتاب، توجد قصص كثيرة وحكايات تنام داخل الأوراق والصفحات. للكتَّاب في ذلك خيارات لا نهائية من الكلمات والجمل والنصوص، لكن لمحمد الياسني ثلاث دمى وبضع خيوط يصنع منها مشاهد وحوارات عديدة تشدُّ الأطفال وحتى الآباء.
"ليس طفلي وحده من يحس بالدهشة والفرحة، بل أنا أيضا أحس بذلك. كأن الزمن عاد بي إلى الوراء سنين كثيرة، إلى مسرح الحي حيث كنا نحضر عروض الدمى آيام الآحاد.. سعيد أن يكتشف ابني هذا أيضا"، يحكي رشيد، أب في عقده الخامس. فيما تقول أم أخرى أتت مصاحبة لطفلتين: "إنها مبادرة جميلة من طرف المشرفين على المعرض.. أطفالنا اليوم محتاجون إلى مثل هذه الأنشطة وأن يكتشفوا عوالم أخرى غير تلك التي اعتادوها في الألواح الإلكترونية والهواتف".
لم يكن محمد الياسني طيلة هذه الأيام التي زرناها فيه، في رواق الأطفال بالمعرض الدولي للنشر والكتاب، يختار مواضيع عروضه باعتباطية، بل كان يمزج بوعي وقصديةِ فنانٍ كبير، الفن الذي يقدمه بالتقاليد والتراث المغربيين... لأنه يعرف "حجم تأثير ما يقدمه والأثر الذي يتركه في نفوس الأطفال لذلك أختار في كل يوم تمرير رسائل سامية.."، يقول الياسني الذي يشخص التراث والتاريخ والقيم وأشياء أخرى كثيرة. يفعل ذلك بشغف وصدق كبير، ولذلك تحديدا فإن عروضه تخترق قلوب الأطفال ولذلك أيضا فإن ورشته التي يديرها منذ بداية فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب برواق الطفل تعج دائما بأفواج من الأطفال والآباء ممن تشدهم عواله الآسرة.