في زمن تتقاطع فيه أسئلة الأدب والفكر والإعلام، تعود الحاجة ملحة إلى استحضار رموز صنعت المعنى وراكمت الأثر، من بينهم الكاتب والصحافي المغربي الراحل محمد باهي، الذي يعد من الأسماء البارزة التي جمعت بين الالتزام المهني والعمق الفكري.
وفي إطار فعاليات الدورة الثلاثين للمعرض الدولي للنشر والكتاب، احتضنت إحدى الندوات الفكرية جلسة بعنوان "في الحاجة إلى استحضار المنجز الفكري للكاتب والصحافي المغربي محمد باهي حرمة"، أدارها المؤرخ والكتاب المغربي الطيب بياض، وشارك فيها كل من الحقوقي والمناضل امبارك بودرقة والدكتور محمود الزاهي، في محاولة لاستجلاء ملامح هذا المسار الحافل، وإعادة طرح إرث باهي كمادة حية للنقاش والتفكير في الحاضر.
وفي مداخلته خلال الندوة، استحضر الحقوقي والمناضل امبارك بودرقة أهمية مشروع موسوعة محمد باهي، تحت عنوان "يموت الحالم ولا يموت حلمه"، مشيرا إلى أن هذه الموسوعة بلغت اليوم الجزء التاسع، وهي ثمرة مجهود جماعي يروم حفظ تراث أحد أبرز الصحافيين المغاربة وأكثرهم ارتباطا بالقضايا الوطنية والقومية.
وأوضح السيد بودرقة أن بعد مرور حوالي 29 سنة على وفاة محمد باهي، كان من الممكن أن يطاله النسيان لولا المبادرات التي عملت على توثيق منجزه الصحافي والفكري؛ مضيفا أن هذا التراث، الذي كاد يندثر، أصبح اليوم مرجعا يحيي الذاكرة ويستقطب اهتمام عدد كبير من الأكاديميين المغاربة، بل يشكل مادة للعديد من أطروحات الدكتوراه.
وفي هذا السياق أشار المتحدث إلى أن الجزء التاسع من الموسوعة يغطي الفترة الممتدة ما بين 1959 و1965، ويتوزع على محورين أساسيين؛ حيث سلط الضوء على العديد من القضايا الافريقية، إذ يضم الكتاب 16 مقالة حول النضال الإفريقي ضد الاستعمار، وخصوصا الصراع مع القوى الاستعمارية الفرنسية، كما توقف الراحل محمد باهي حرمة، في هذه المرحلة، عند زيارة الجنرال ديغول لإفريقيا سنة 1958، في إطار الترويج لدستور الجمهورية الفرنسية الخامسة وتأسيس ما سمي آنذاك بـ"الجامعة الفرنسية الإفريقية"، التي اعتبرها باهي واجهة جديدة للاستعمار المقنع.
كما أضاف السيد بودرقة أن هذه المقالات تسلط الضوء على عدد من القضايا المفصلية، من بينها الصراعات في غينيا وغانا، والمؤتمر الأول للمنظمة الإفريقية الذي عرف مشاركة زعماء بارزين من حجم الملك محمد الخامس، جمال عبد الناصر، كوامي نكروما، أحمد هونو، فرحات عباس، حيث خرج المؤتمر بميثاق مهم أرّخ لبداية تحول في العمل الإفريقي المشترك.
وفي القسم التالي، قال السيد بودرقة إن باهي كتب مجموعة من المقالات عن السودان، بدقة تكاد تنطبق على الواقع الحالي، حيث تناول في عام 1965 الصراع بين البروليتارية والجيش، ووضع له توصيفا خاصا بصياغة مصطلح جديد: "العسكريتارية"؛ مختتما مداخلته بالإشارة إلى أن هذا الجزء من الموسوعة يتوج بمقالة عن الكاتب المغربي محمد شكري، الذي كان باهي الوحيد الذي كتب عن عمله "حياة ذات ثغرات"، الصادر عام 1964 بالإنجليزية، قبل أن تتم ترجمته لاحقا إلى الفرنسية، والألمانية، والإسبانية.
من جانبه، اعتبر الدكتور والباحث في التاريخ، محمود الزاهي، أن الراحل محمد باهي يعد من أبرز قامات الفكر والصحافة العربية، لما قدمه من إسهامات فكرية وتحليلية لا تقتصر فقط على الفضاء المغربي والعربي، بل تمتد لتشمل أيضا السياق الأوروبي، خاصة خلال مقامه الطويل في باريس.
وأوضح الأستاذ الزاهي أن تقديم الجزء التاسع من موسوعة باهي، الذي يحمل عنوانا دالا: "يموت الحالم ولا يموت حلمه"، يندرج ضمن جهود اكتشاف هذا الرجل المتفرد، وتتبع أثره في تاريخ عدد من الشعوب، وفي تفكيك إشكالات معقدة عرفها العالم العربي وإفريقيا وأوروبا خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
وأكد المتدخل أن هذا العمل يكشف النقاب عن جزء مهم من الثقافة المغربية المعاصرة، بما تزخر به من عطاء وإبداع، فضلا عن كونه يشكل مدخلا مهما لسبر أغوار الثقافة العربية ومفاهيمها الكبرى، مضيفا أن باهي، الذي عرف بعصاميته، كان مفكرا عميقا وصحافيا ميدانيا، استطاع أن ينتج مادة تحليلية غنية تصلح اليوم كمرجع للباحثين المهتمين بمرحلة الحرب الباردة، وتداعياتها الممتدة إلى سقوط جدار برلين.
وأشار المتكلم إلى أن باهي لا يزال حاضرا اليوم من خلال الأسئلة التي طرحها في مقالاته وتحقيقاته، والخلاصات التي خلص إليها، والتي لا تزال كثير من ملامحها صالحة لفهم التحولات الجيوسياسية الراهنة، خاصة فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، وفي الصراع المتجدد بين الشرق والغرب.
وأضاف المتحدث أن باهي يحتل أيضا موقعا بارزا ضمن ما يسمى بـ الرأسمال الثقافي المغربي، سواء من حيث كيفية بنائه أو توظيفه، أو في علاقته بالتنمية، وهو ما يفسر راهنية ما كتبه قبل عقود؛ مؤكدا أن الاهتمام المتزايد بأعماله اليوم، سواء في الجامعات أو في وسائل الإعلام، دليل على عمق ما تركه من أثر.
وختم الأستاذ الزاهي حديثه بالتعبير عن أمله في أن يستمر هذا المشروع الفكري الطموح، الذي بدأ يلقى صدى إيجابيا في الأوساط الأكاديمية، متمنيا أن يرى النور الجزء العشرون من موسوعة باهي خلال السنوات القليلة المقبلة، ليستكمل بذلك توثيق أحد أهم المسارات في تاريخ الصحافة المغربية والعربية.